مقالات رأي - نوفمبر 4, 2022

مَهَمَّة السوداني صعبة.. لكنها ليست مستحيلة

حميد الكفائي

مهما تكن مثالب الحكومة العراقية الجديدة، وهي كثيرة، لكنها بالتأكيد أفضل من الحكومة الهزيلة السابقة، التي لم تكن حكومة حقيقية، بل مجرد جماعة من هواة المناصب، أمضت سنتين ونصف في التفرج على المشاكل والخلافات بين القوى السياسية المختلفة، متملقةً للجماعات المسلحة ورعاتها الأجانب، ضعيفةً ومنبطحة أمامها، مراعيةً الأقوياء على حساب الضعفاء، والأثرياء على حساب الفقراء.

كان همها الأول البقاء، والبقاء فقط، ليس لهدف وطني أو إنساني، حاشاها ذلك، وإنما لكي تستمر رواتب وامتيازات المشاركين فيها، الذين كانوا يأملون أن يتحولوا بقدرة قادر إلى قادة سياسيين أقوياء، متناسين عيوبهم المتأصلة وغير القابلة للإصلاح. لم تفِ بوعودها بملاحقة قتلة المتظاهرين، أو القضاء على الفساد أو الحد منه. وكل الذي فعلته هو أنها جعلت الفقراء ومحدودي الدخل يدفعون ثمن أخطائها وأخطاء الحكومات السابقة عبر تخفيض سعر الدينار الذي تسبب في رفع أسعار السلع الاستهلاكية، ومعظمها مستوردة.

آخر “إنجازاتها” كان الإشراف على “سرقة القرن”، البالغة 2.7 مليار دولار، نعم 2.7 مليار دولار، من أموال الأمانات الضريبية وتحويلها إلى الخارج.

هذه الجريمة الكبرى بحق العراقيين هي أكبر تحدٍ يواجه حكومة محمد شياع السوداني، التي يجب أن تشكل لجنة من المتخصصين للتحقيق فيها، من أجل الوصول إلى جذورها، ومعرفة كيف تمكَّن السراق من اختراق مؤسسات الدولة بسهولة نادرة الحدوث في أي بلد طبيعي، وتحويل مبالغ بهذا الحجم عبر المصارف الرسمية إلى الخارج.

 إن إهمال التحقيق في هذه الجريمة سوف يقود إلى تكرارها، وربما بحجم أكبر في المستقبل، وسوف يؤدي إلى ضياع هذا المبلغ الهائل، الذي يمكن أن يحدث تغييرا واسعا في العديد من القطاعات. إن تمكنت الحكومة من كشف كيفية حدوثها، وإدانة المتورطين فيها وإعادة الأموال المسروقة، فستكون إحدى أهم علامات نجاحها. أما إذا أهملتها أو تسترت عليها، فهذا يعني أن المتورطين فيها أقوى من الحكومة، ما يؤدي إلى زعزعة ثقة الناس بها.

لقد اختير السوداني لتشكيل الحكومة، ليس لأنه قوي سياسيا، ولكن لأنه أكثر السياسيين الحاليين قبولا لدى الشعب، إذ لم تطَله شبهات الفساد والفشل، لكن هذا وحده لا يكفي لأن ينجح في مَهَمَّته، رغم أنه في غاية الأهمية في عراق اليوم. ينحدر السوداني من عائلة الصيهود المعروفة في محافظة ميسان، وكان والده عضوا في حزب الدعوة الإسلامية المحظور، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله ثم إعدامه عام 1980، مع خمسة آخرين من أفراد عائلته.

دخل السوداني العملية السياسية مبكرا، وهو الوحيد بين السياسيين الذي تدرَّج بشكل طبيعي في المناصب الحكومية، فبدأ في أدنى السلم، قائمقاما لقضاء العمارة، ثم ارتقى إلى محافظ ميسان، وفي عام 2010، اختير وزيرا لحقوق الإنسان في حكومة المالكي الثانية، وهذه الوزارة فائضة عن الحاجة، لذلك ألغيت عام 2016، فالدفاع عن حقوق الإنسان تتولاه منظمات المجتمع المدني، وليس الحكومة، التي هي المتهم الأول بانتهاكها، ولا يمكنها أن تكون حَكَما في هذه المسائل.

وعند تشكيل حكومة حيدر العبادي عام 2014، صار السوداني وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية، ورغم كونها وزارة مهمة، لكنها مهمشة، مع ذلك، ازدادت أهمية الوزارة لارتباط شبكة الحماية الاجتماعية بها، وكان أداء السوداني جيدا بحسب الذين عملوا معه من موظفين ومسؤولين. وفي عام 2018، عاد السوداني نائبا في البرلمان، ثم أعيد انتخابه عام 2021

 وبعد مخاض عسير دام عاما كاملا، تخللته احتجاجات ومفاوضات ومصادمات مسلحة بين القوى (السياسية)، انتهت باستقالة 73 نائبا من البرلمان، ثم استبدالهم بالمرشحين الذين جاءوا في المرتبة الثانية، وفق قانون الانتخابات، اختير السوداني مرشحا للكتلة الكبرى، وهي الإطار التنسيقي، التي كانت كتلة صغرى حين إعلان نتائج الانتخابات في أكتوبر عام 2021، وبقيت صغرى حتى استقالة النواب الصدريين في يونيو عام 2022

صار السوداني رئيسا للوزراء في السابع والعشرين من أكتوبر 2022 بعد تصديق البرلمان على حكومته، ويعتبر بين قلة من السياسيين الذين حققوا نجاحا، ولكن مهلا، فالنجاح في العراق لا يقاس بكثرة الإنجازات وإنما بقلة الإخفاقات وغياب الاتهامات، فلم تطَل الرجل أيٌّ من شبهات الفساد التي طالت معظم السياسيين، إن لم نقل كلهم، صادقةً كانت أم زائفة.

التحديات التي تواجه السوداني لا يمكن عدها، لكثرتها وتراكمها، لكن أهمها على الإطلاق هو نزع سلاح المليشيات التي يرتبط بعضها بالدولة ويتقاضى رواتب منها. المسلحون “المجهولون” هم المسؤولون عن الفساد، وهم المسؤولون عن القتل والخطف ونهب المال العام وحماية الفاسدين، وهم المرتبطون بدول أجنبية تسعى لزعزعة استقرار العراق. هؤلاء هم العقبة الأولى في طريق رسوخ الدولة وتقدمها، وهم الذين همَّشوا الخبراء والنزهاء والمخلصين وأصحاب الرأي، بل دفعوهم إما إلى الصمت والتنحي جانبا، وإما إلى الهجرة وترك العراق كليا.

وهم الذين زرعوا الخوف ونشروا الإرهاب وشجعوا التبعية والنفاق، بسبب قمعهم الرأي الآخر، وقتلهم وتسقيطهم، أو الاثنين معا، كل من ينتقدهم أو ينتقد راعيهم الأجنبي. لقد بلغ عدد ضحاياهم بالآلاف، لا تبدأ بالدكتور علاء مشذوب والصحفيين هادي المهدي ونزار عبد الواحد وأحمد عبد الصمد وتوفيق التميمي ومازن لطيف، ولا تنتهي بالدكتور هشام الهاشمي والدكتورة ريهام يعقوب والناشط المدني سجاد العراقي والناشط المدني إيهاب الوزني والمحامي علي جاسب وأبيه، الذي قتل لمطالبته بالكشف عن خاطفي ابنه، فأيُّ ظلمٍ أعظم من هذا يمكن أن يطال الإنسان: يُقتل غيلةً لأنه احتج على خطف ابنه.

إن لم يتمكن السوداني من حل هذه المشكلة، من أجل تحقيق الأمن وحفظ المال العام وصون الحريات المدنية، التي عبثت بها هذه الجماعات الإجرامية، فلا يمكننا الحديث عن دولة مستقرة، ناهيك عن الديمقراطية والتقدم وتفعيل القانون وصون الحريات الشخصية والعامة، وتنمية الاقتصاد وتوفير الوظائف وتحسين الخدمات، وما إلى ذلك من آمال وأحلام تراود مخيلة العراقيين.

إن إيجاد حلٍ، أمني أو سياسي، لمشكلة السلاح المرتبط بالدولة وغير المقيد بقوانينها، وليس “السلاح المنفلت”، كما يردد كثيرون، هو مفتاح لحل مشاكل العراق الأخرى، وهي كثيرة، من تدهور الخدمات، خصوصا الكهرباء والصحة والتعليم، وارتفاع نسبة الفقر التي تجاوزت ثلث السكان، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، إلى تفعيل القانون وحماية الحريات وتنمية القطاع الخاص، كي يستوعب الأعداد المتزايدة من العاطلين، وإصلاح البنية الأساسية المتهالكة للدولة، من طرق وجسور وخطوط السكك الحديد وخطوط النقل العام، وأنظمة الاتصالات، ونظم تجارية رصينة، يكون الدور الأول فيها للقطاع الخاص، وليس لأجهزة الدولة المتضخمة.

لا أحد يتوقع من السوداني أن يجترح المعجزات، والجميع يدرك أن حكومته الحالية ضعيفة لأنها من اختيار الجماعات السياسية المتهمة بالفساد والفشل، والتي أخذت بنظر الاعتبار مصالحها قبل المصلحة العامة.

والضعف هنا، لا يأتي من عدم خبرة أعضاء الحكومة، فكثيرون منهم أمضوا عقدين أو ثلاثة كموظفين ومسؤولين في الوزارات التي تولوا إدارتها الآن، وكثيرون منهم لم تطَلهم تهم فساد، لكنه يأتي من ارتباطهم بالجماعات السياسية التي جاءت بهم إلى المناصب، واحتمال خضوعهم لإرادتها، من أجل البقاء في مناصبهم، أو عدم تعرضهم لتهم كيدية كالتي طالت عددا من المسؤولين النزهاء، من أجل ابتزازهم وإخضاعهم لإرادة الفاسدين.

بإمكان السوداني أن ينجح، وكثيرون يعولون على نجاحه، ليس خلال السنة الأولى، فهذا مستحيل، ولكن الجميع يريدون منه أن يبدأ فورا بعملية الإصلاح الطويلة الأمد، والتي تتطلب قراراتٍ شجاعةً وسياساتٍ حكيمةً وعلاقاتٍ دوليةً مثمرة. يحتاج العراق لتطوير علاقاته الدولية، وألا يصطف مع الخاسرين والمحاصرين، فتكفيه العقوبات والحروب خلال أربعة عقود. ويحتاج أيضا لأن يصطف مع الدول النافعة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، خصوصا الدول العربية والدول الغربية، التي تمسك بزمام الأمور في العالم، الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

وبالتأكيد يحتاج إلى الابتعاد عن الارتباط بالدول المغامرة، التي لا تكترث لمصالحها الطويلة الأمد، بقدر اهتمامها بتطبيق أيديولوجيات بالية. هناك جماعات تحاول ربط العراق بدولة فاشلة ومحاصرة داخليا وخارجيا، وهذه الجماعات يجب التصدي لها، عبر الإقناع بأن مصلحة العراقيين الطويلة الأمد تكمن في وجود دولة قوية ومستقلة، فإن فشِلْ، لابد من المواجهة، كي يبقى العراق مستقلا وقادرا على مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية المتسارعة.

ومن الضروري أن يشرع السوداني فورا بتشكيل فريق من الخبراء النزهاء المستقلين سياسيا، كي يضطلعوا بمهمة إيجاد السبل لإيقاف التدهور الحالي، كل في مجال اختصاصه، ثم البدء بانتشال البلد من مشاكله وأزماته عبر خطوات حثيثة مدروسة. بهذا الإجراء يمكنه أن يكسب الشعب الغاضب والمحبط، وأن يواجه خصومه من الكتل السياسية، التي لا يتمنى بعضها له النجاح، بينما يحاول الآخر أن يستغل ضعفه للتغول على مؤسسات الدولة وتسخيرها لمصلحته. إنها مهمة شاقة وتحتاج إلى جهود استثنائية، لكنها ليست مستحيلة.

المصدر – سكاي نيوز عربية

تنوية : جميع المقالات المنشورة تمثل راي كتابها فقط

تعليقان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

جريمة الإبادة الجماعيَّة المرتكبة في غزَّة

متابعة – عراق 24 زهير كاظم عبود حدد الإعلان العالمي لحقوق الانسان ضوابط وأسسًا لتحدي…