متابعة – عراق 24
رحلة إلى تاريخ يزيد عن 1000 عام سيراً على الأقدام
إذا لم تكن لديك سوى ساعات معدودة في مدينة القاهرة، وأردت أن تحقق أكبر استفادة ممكنة من وقتك الثمين، فما عليك إلا أن تتجه إلى شارع «المعز» بقلب العاصمة المصرية القديمة، حيث يمكنك أن تقطع رحلة عبر الزمن، عمرها يزيد على 1000 عام فقط، وأنت تتجول سيراً على الأقدام.
في منتصف شارع «المعز» ستجد واحدة من أعظم الآثار الإسلامية الباقية إلى اليوم، التي يعتبرها كثير من خبراء الآثار ثاني أجمل ضريح في العالم، بعد تاج محل بالهند.
ما ستشاهده لا يقتصر على ضريح واحد من أعظم سلاطين مصر المملوكية، لكنه يمثل مجموعة متكاملة، تضم أيضاً مسجداً ومدرسة، حتى مستشفى أو «بيمارستان» بلغة ذلك الزمان، ولا يزال يقدم خدماته الطبية إلى اليوم.
إنها مجموعة قلاوون التي تعد أقدم نموذج متكامل باقٍ لنظام المجمعات المعمارية، وقد دفن بهذا الضريح السلطان المنصور قلاوون وابنه الناصر محمد بن قلاوون وحفيده علاء الدين إسماعيل.
العصر الذهبي للمماليك
يُصنف المؤرخون عصر أسرة قلاوون باعتباره «العصر الذهبي» للدولة المملوكية، فقد استطاع المنصور قلاوون، بعدما استولى على الحكم من أبناء صديق طفولته وأحد أقوى سلاطين المماليك، السلطان الظاهر بيبرس، أن يؤسس حكماً قوياً له ولأسرته دام ما يزيد قليلاً عن 100 عام، وكان حكم تلك الأسرة هو أوج الازدهار للمماليك.
تقع مجموعة قلاوون بمنطقة النحاسين بشارع المعز لدين الله الفاطمي في الجزء المعروف ببين القصرين، وتجاورها مجموعة من أجمل الآثار الإسلامية، فبجانبها مسجد ومدرسة وخانقاه (مباني تعبد الصوفية قديماً) الظاهر برقوق، ثم المدرسة الكاملية، وحمام السلطان إينال، ويقابلها سبيل وكُتّاب خسرو باشا ومدرسة وقبة نجم الدين أيوب ومدرسة الظاهر بيبرس ثم سبيل محمد علي وقصر الأمير بشتاك، لتصنع تلك المنطقة الصغيرة واحداً من أنفس الكنوز المعمارية التي تجسد تطور العمارة الإسلامية عبر أزمنة متعاقبة.
البناء شبه مربع الشكل، يتوسطه صحن مفتوح يضم 4 أروقة، أكبرها رواق القبلة، ويتوسطه المحراب الذي تسبقه قبة، وتعتبر مئذنة مسجد «قلاوون» أضخم مئذنة بنيت في مصر، كما أن قبة دفن السلطان من أجمل القباب الباقية بالقاهرة، واستخدمت أيضاً كخزانة للكتب، بالإضافة إلى مدرسة لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة، وإقامة الصلاة.
بوابة المسجد واحدة من النماذج المتفردة في العمارة الإسلامية، فهي من الرخام، واشتملت الواجهة على عقود محمولة على أعمدة رخامية، بداخلها شبابيك مفرغة بأشكال هندسية، بها إفريز مكتوب به اسم المنشئ للمبنى، وتنتهي في أعلاها بشرفة مسننة بحُلي وزخارف.
ومن المشاهد اللافتة التي تستقبل زوار مجموعة قلاوون، وجود صليبين عند عتبة الباب العلوية، وقد وضعت بهذه الطريقة عمداً لتخليد انتصارات السلطان الذي جلب كثيراً من الأحجار المستخدمة في البناء من القلاع الصليبية التي هدمها خلال حروبه في الشام، إذ واصل السلطان المنصور حروبه لتصفية الوجود الصليبي في الثغور الساحلية، بعد الانتصارات التي حقّقها سابقوه كالسلطان الأيوبي «صلاح الدين»، والظاهر بيبرس.
طابع معماري فريد
ويرى الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط العمراني بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، أن قيمة مجموعة قلاوون لا تقتصر على جماليات العمارة بها، بل لأن المجمع الذي يحتوي مسجداً ومدرسة وبيمارستان أدخل طابعاً معمارياً فريداً إلى المدينة، ويضم مباني ذات رسالة دينية وأخرى تعليمية وطبية، تقدم خدماتها لجموع المواطنين.
ويضيف الصياد لـ«الشرق الأوسط» أن تشييد المجمع تم في 13 شهراً فقط، وهي مدة قصيرة للغاية بالنظر إلى ضخامة المجمع وجماليات العمارة الفريدة به، فقد أنشئ في الفترة ما بين يوليو (تموز) 1284 وأغسطس (آب) 1285. كما كانت الأساليب التي استخدمها قلاوون لتشييد هذا الصرح الهائل مثار جدل كبير، فبالإضافة إلى تفكيك كثير من المباني في القلعة وإعادة استخدام مكوناتها، قام قلاوون أيضاً بالإسراع من وتيرة العمل في هذا المجمع بتجنيد كل البنائيين في مدينة القاهرة، كما استخدم مئات العاملين من أسرى الحرب من المغول.
ويتابع أستاذ العمارة والتخطيط العمراني، الذي حصل على درجة الماجستير من الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي بدراسة عن التخطيط العمراني والشخصية المعمارية لآثار القاهرة الإسلامية، أنه وفقاً لوثائق هيئة الأوقاف، فإن السلطان قلاوون قام بتحويل هذا المجمع الضخم إلى وقف خيري قبل وفاته، وكان المجمع لا مثيل له، ليس فقط لحجمه الهائل الذي يتجاوز ارتفاعه 20 متراً، بل لابتكاره وظائف معمارية ونقوشاً وزخارف غير مسبوقة في عمارة ذلك العصر، ولا يزال معظمها محتفظاً بحالته إلى اليوم، رغم مرور ما يزيد عن 7 قرون على بنائه.
ضريح قلاوون يضم رفات 3 سلاطين من الأسرة المملوكية التي حكمت مصر أكثر من 100 عام… و نقوش السقف تعكس الاهتمام بتفاصيل مجمع قلاوون
مستشفى مملوكي 5 نجوم
يتطرق الصياد إلى مجموعة من السمات الجمالية المميزة لمجموعة قلاوون، فيشير إلى أن أعمال الفسيفساء بالمجمع جذبت له شهرة كبيرة، سواء في الضريح أو في محراب المسجد، وقد أصبح الضريح بمرور الزمن هو المكان المختار لتنصيب أمراء المماليك، كما أن المستشفى الملحق بالمجمع يمثل إنجازاً غير مسبوق في العمارة المملوكية، وقد أبدى الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة، الذي مكث في مصر لفترة عام 1326 وهو في قافلة متجهة لأداء فريضة الحج، إعجابه بفخامة المستشفى وقاعاته الأربع، وكتب في مذكراته: «أما البيمارستان فليس هناك وصف مناسب يمكن أن يعبر عن جماله».
وقدر ابن بطوطة أن المستشفى كان يعالج ما يقرب من 4 آلاف مريض يومياً من الأمراض المعدية، وكانت تجرى به الجراحات بكل أنواعها، وتضمن كذلك إقامة مجانية تتضمن صرف 3 وجبات وسريراً مفرداً للمرضى الفقراء، الذين كانت لهم الأولوية في العلاج بالمستشفى حسب وثيقة الوقف، وعند انتهاء علاجهم كانوا يُمنحون ملابس ونقوداً لدى خروجهم، كما تُقدم مصروفات الجنازة لمن يتوفى منهم.
ومن العجائب التي ترويها بعض المراجع التاريخية حول «بيمارستان المنصور قلاوون» أنه خصص للمرضى في فترة النقاهة كل ليلة مجموعة من الأشخاص يضربون العود ويعزفون عليه لتسلية المرضى، وإذا ما عانى أحدهم من الأرق كان يُحضر له الحكاوتي الذي يُسليه بشتى ألوان القصص والحكايات حتى يذهب عنه الأرق.
المصدر : الشرق الاوسط
“ذاكرة الزمن الجميل” في منزل مواطن أردني
متابعة – عراق 24 مقتنيات قديمة وبعضها نادر حرص المواطن الأردني أحمد الأخرس على جمعها…